
ذاكرة تعبه ويوم حار .. ومدينة خائفة..تقيئنا لمدينة أخرى ، على الطري الطويل سارت بنا سيارة تسابق ظلها دون جدوى ...سألني صديقي عن المدن الغارقة باللهو وأجساد النساء الطرية.. عن دمشق التي لا تخاف الليل .. صمت حاولت ان أعيد رسم الصورة في مخيلتي .. حاولت ان أتذكر أدق التفاصيل .. الحفلة الصاخبة .. في ملهى شبه معتمه ..وجسد نسرين الذي تبيعه للقادمين .. وحديثها الحزين بعد ان افرغت في جوفها قدح البيرة العاشر...."باعوني منذ ان كان عمري ثلاثة عشرا عاما .. في عمان لرجل سعودي .. كانت ليلة رهيبة .. الدم .. والألم .. والصراخ .. لم أكن اعرف حينها أي شيء ...أخذتني خالتي لشقة جميلة .. أثاث مرتب.. وجل كبير السن ..اخرج من محفظته حزمة من النقود دفعها لخالتي.. وغادرت كنت ارتعب خوفا..بكيت دون ان يهتم ..كنت أرى في عيونه شراهة متوحشة ..جرني بقوة من يدي الى حيث المقصلة ..فراش وفير ..أزاد بكائي .. وتوسلي
- عمو الله يخلي جهالك ..اتركني ..لم يأبه .. وذبح طفولتي .. وذبحني ..لم أرى أي دمعة تنزل من عينيها .. كنت اشعر ببروده استوطنت بروجها منذ زمن ...... حاولت ان امحي من ذاكرتي هذه الصورة الممزقة .. حاولت ان أنسى نسرين وجسدها المباح .. حاولت ان أنسى ليلة حزينة أفرغت فيها كل أقداح الخمر لعلي أنسى كل شيء.. فشلي .. ضياعي .. بحثي اللانهائي .. ورحلة حياتي التي تتخبط ..اذكر أنني ضحكت ليلتها .. نعم ضحكت .. آلما وحزنا .. حكيت لنسرين عن داليا ..تلك الأميرة العراقية التي هربت إلى القاهرة سألتني .. لماذا هربت ؟أجبتها
- كانت تخاف بغداد
- ماذا فعلت ؟؟ الم تحاول منعها...
- لم افعل شيئا .. هي اختارت الرحيل وإنا اخترت البقاء ..لأوقع على صك هزيمتي إلف مرة عاد صوت صديقي من جديد يمزق صمتي ..- لماذا الموت رخيص عندنا بهذا الشكل .. صديقي وأبوه اختطفوه قبل أشهر .. وبعد بحث طويل وجدوا جثتيهما عند نفس المكان الذي ذاهبين له ألان .. هل تتصور ان مصيرنا سيكون نفس مصيرهم ...لم استطع ان أشاركه حديثه هذا .. كنت أرى أمامي حشودا بشرية مقطوعة الرؤوس تقف عند باب الله المغلق .. تطرقه دون جدوى .. حتى جسد نسرين كان يقف بين الحشود .. تحسست راسي .. لايزال في مكانه .. تراجعت شعرت بخوف شديد يستبيح قلبي.. هربت مبتعدا .. أغمضت عيني .. تعثرت قدمي .. سقطت .. ألح عل أذني صوت أطفال تتصايح.. كانوا يعلبون كرة القدم .. صوت دوي انفجار هائل.. كان مشهدا مرعبا .. دم .. صراخ... صراخ .. هربت كان جسدي ينزف أيضا .. بقع دم في كل مكان .. حتى في ذاكرتي .. رؤوس وأصابع مقطوعة ..توقفت السيارة عند حاجز للتفتيش.. فتشوا كل شيء.. حتى أفكارنا
- عن ماذا تبحثون ؟؟أجابهم صديقي
-نحن صحفيان جانا من اجل التحقيق عن الجثث التي يعثر عليها في نهر دجلة.يجب ان تكون عندكم موافقة خطية ..ممن تساءلت مع نفسي من القاتل أم من المقتول .. ها ترانا ننتهك حرمتهم .. نمزق هدوء طقوس دفنهم اللامعلنة .. غرباء في وطنهم.. وغرباء في موتهم .. وغرباء في قبورهم ترجل صديقي من السيارة وبعد مفوضات مضنية سمحوا لنا بالمرور لمدينة تشيع موتها بصمت .. وتحت الجسر الجاثم على دجلة .. وقفنا عثروا هذا الصباح على أربعة جثث .. مكبلة ومقطوعة الرؤوس .....- داليا بغداد جميلة رغم كل شيء- لا استطيع منع نفسي من الخوف .. أخاف من كل شيء ليلها الميت .. موتها اليومي .. تذكرني كل يوم برحيل والدي .. اذكر انني توسلته كثيرا ان لا يرحل .. لكنه رحل أخذته مني بغداد بحزنها همومها التي لا تنتهي..- داليا مع ذالك لا تتركي بغداد- لم اعد احتمل ..لون الدم يطغي عل كل شيء
- داليا ..إنا احبك....
- لا وقت هنا للحب .. كل شيء مباح هنا .. القتل الحرب الدمار .. إلا الحب التقط صديقي الكامره وبدأ بالتصوير .. رائحة تزكم الأنوف .. وعيون مقتلعة ..سمعت صوت مرافقنا كل يوم نجد جثث .. أطفال ونساء .. ورجال .. اغلبها مقطوعة الرؤوس وعليها اثأر التعذيب.....
- داليا العراق جميل حتى في موته لا تتركيه ولا تتركيني .. أعياني البحث عنه وعنك.
- لا استطيع صدقني لم اعد احتمل لم استطع منع نفسي من البكاء ....حاولت ان أوقف هذا الصخب .. رقص مبتذل وغناء .. كنت اشعر بالدوار .. بالهزيمة أمام زجاجة الخمر الجاثمة أمامي .. ماذا يفعلون تركت وطني خلفي يحترق .. تركت أجسادا يمزقها الموت والحرمان ..- نسرين هل تحبين العراق ؟؟..
- العراق .. الله .. لا تتصور كم أحبه .. رغم انه حرمني من طفولتي-لكنهم لا يحبونه .. يكرهونه
- تعرف .. رغم انني تركته منذ زمن بعيد .. وتنقلت بين عمان واليمن ودبي وسوريا .. لكنني لم اجد اجمل منه العراق .. اه كم اكرهه لانني لا اجد فيه غير الحزن والالم والصامتين ..لاشيء فيه سوى الموت والجثث .. جثث في كل مكان عاد صوته من جديد يعيدني الى حيث الموت..."قبل ايام انتشلنا جثة صبي لم يتجاوز العاشرة .. اطلاق ناري في الراس ..توسلت صديقي ان نغادر ..لم اعد احتمل ..وغادرنا تشوشت ذاكرتي من جديد لم اعد اذكر شيء .. كان كل ما فيها جثث مكبلة .. وأشلاء ممزقة .. ودعت صديقي عند الشارع العام كان علي العودة الى مدينتي التي تركتها منذ زمن ..
- ربما لن تراني بعد هذا اليوم الا جثة مكبلة.......