الأربعاء، 16 يوليو 2008

مجيد روبه


بدأت أصغر شيئا فشيئا ، أشعر بأنني أتكور . لقد أصبحت أصغر من هذه السجارة الغير مشتعله الواقفة كعمود كهرباء في فمي : وحتى علبة الكبريت أصبحت أكبر من يدي.بل أنني أدخن فيها ، إنني أصغر من عود الثقاب هذا الذي يقترب من السيجارة: حريق هائل أمام وجهي .. غابات تشتعل .. مدينه كامله تحترق : سحب دخان كثيف: ماعدت أرى شيئا:هذا العالم يتلاشى .. يتلاشى أمامي : شيء ما يحترق قرب فمي .وفجأة: ابتلعتني قطره عرق هائله نزلت من جبيني. إنني الان وسطها: الهواء شارف على النهاية .. رئتي امتلأتا بالماء المالح .. أنني وسطها اغرق : بحر هائل أمامي .. أحاول أن أصل إلى اليابسة ..إلى سطحة لعلي أتنفس لكن يدا إنتشلتني من هذا البحر .. إنه .. لا أعرف ربما صديق لـــــي .. ماعدت أتذ كر.وروحي تتقلص: تصغر: تصغر: آه ما اطول هذا الشخص الواقف أمامي: إنني اقف أمام حذائه الهائل أريد أن اصعد : أن أتسلق جسده: اصل إلى أذنه لكي اصرخ فيها مــــــن أنا؟ ومن أنت ؟

ماذا فعلت بــــي تلك الحبة الصغيرة التي قذفتني إلى هذا العذاب. ظل واقفا أمامي تمتم بكلمات لا أفهمها،

لغة غريبة لم أعد أعي أي شــــيء: شاح بوجهه عني بعد أن اخرج يديه من جيوبه وغادر: بل اختفى فجأة. ماذا حدث .. الساعة ماذا أصابها: الثانية تمر على جسدي كأنه مــــوس حلاقه أو قطعة زجاج إنني أنزف .. توقفت الساعة تماما ، حتى هذا الشارع الذي يمتد أمامي لا حركة فيه.. كل شيء متوقف.. ذبابه واقفه أمام عيني في الهواء دون حراك، حتى الأصوات متوقفه .. لكن قلبي ينبض بقوه ليس دما إنما شيء يبعث على الحكة في أنحاء جسدي ربمـــــــــــا يكون نملا :أسراب عديده تسير في جسدي .كنت واقفا على حافه الرصيف .. كلا إنها حافه هوة صخرية عند وادٍ عميق.. عميق جدا : لا أستطيع أن أرى قراره. إنني أترنح .. هواء بارد جاف يأتي من ذلك الوادي يدفعني إلى الوراء: وعاصفه هوجاء تجعلني انحني نحوه: وهكذا كرقاص ساعة قديمه .لكني فجأة وجدت نفسي عند ابواب مدينه صخريه مهجوره .. كل ما حولي صخور فيها أبواب مغلقه إلا باب واحد مفتوح . دخلته.. مقبره قديمه . صخور نحتت على شكل توابيت.. جماجم فارغه.. هياكل عظميه .. أغمضت عيني محاولا الهرب من ما به من كارثه .. وعندما فتحتهما وجدت نفسي على سرير حديدي عند حافة برج هائل كان .. السرير يتحرك .. أكاد أن أقع.. لا أرى شيئا . سوى أضوية خافته تتحرك هنا وهناك .. نهضت .. حاولت أن أتمسك بحائط البرج .. لكنني هويت إلى الأسفل مع السرير. رهبة فضيعة .. إنني أسقط.. أغمضت عيني .. فتحتهما بعد حين .. لازلت فوق حافة الرصيف لكن الحركة عادت بشكل بطيء .. روحي تصغر.. تصغر، إنني لا أستطيع التنفس .. إنني أتلاشى.. لكن صوت سعيد عبر المايك . ( بشرى ساره.. يانصيب الجائزة الكبرى.. الجائزة الأولى بيجو 2001 .. الجائزة الثانية خمسة ملايين دينار .. الجائزة الثالثة ثلاثة ملايين دينار .. وحظا سعيدا للفائزين مع تحيات الكابتن مجيد روبة الزورائي ) .. صمت .. وغرقت من جديد في قطرة عرق سقطت من جبيني .. لكني هذة المرة سبحت في داخلها غصت إلى قعرها باحثا عن قواقع الوعي ولكني رأيت أشكالا غريبة أسماك عديدة لكنها ميتة وعندما أخرجت رأسي رأيت جزير قريبة جدا سبحت نحوها بكل قوتي . (بشرى سارة .. يانصيب .. الجائزة الكبرى ..سيارة .. الجائزة الثانية .. خمسة ..الجائزة ... حظا سعيدا ... تحيات الكابتن مجيد روبة ...) من جديد عاد صوته يرميني بقوة على الرصيف التفت نحو محل المرطبات لقد تحركت الساعة ... أخيرا .. لكنها لازالت بطيئة جدا إنها ال... آه هذا الصداع ... لقد أعيتني السباحة أشعر بلسع الرمل كانت الشمس قوية جدا أشجار يابسة لا طيور عليها .. لا زرع لا حياة لا شيء على هذة الجزيرة نهضت محاولا الوقوف على قدمي سحبت خطاي وقفت أمام شاهد قبر مندرس .. كلمات مبعثرة .. هنا يرقد ال... ( سارة .. نصيب .. سيارة .. 2001 .. ملايين .. حظا .. مجيد روبة ... ) عليّ أن أحرك أقدامي .. أن أتراجع قليلا عن حافة هذا الرصيف اللعين .. الساعة تتحرك .. أو أنها تتراجع .. أو لا أدري ، أغمضت عيني، أردت أن أرحل بعيدا جدا . ( ............... يرقد بسلام بعد أن غرقت سفينته في بحر ... ) ( ....................... مع تحيات الكابتن مجيد روبة ... ) لا أعرف كم من الوقت مر وأنا أسمع هذا الصوت الذي يمزق طبلة أذني ويرميني على حافة هذا الرصيف .. وأخيرا أستطيع أن أسير .. أن أتخلص من ذلك الشعور الرهيب بالسقطة ومن ذلك التكور الهائل الذي جعلني أصغر من أي جرثومة صغيرة موجودة على سطح الكرة الأرضية الكريهة .. لقد انتهى مفعول الشيء الرهيب والغريب أو أنه توقف مؤقتا لكنه سيعود في أي لحظة مثل أي احتلال بغيض لينتهك كل شيء . والآن تذكرت أن عليّ رؤيتها .. فمنذ فترة طويلة لم تقع عيناي عليها، لكن صوت سعيد عبر المايك لايزال يعلن عن تلك البشرى اللعينة وكالعادة ختمها بتحيات الكابتن مجيد روبة . إبتعدت هاربا من ذلك الصوت .. ستأتي في أي لحظة وتهرب كعادتها ولكن ماذا أفعل ؟ .. لا شيء مثل كل مرة . وقت طويل مر .. سيجارة شارفت على النهاية .. أشعلت بقاياها سيجارة أخرى .. ولم تحضر .. هل يا ترى تذكرني الآن .. تذكر أن الحمقى مثلي يحبها .. رجل محطم لا ينفع لأي شيء مثل بقايا هذه السيجارة .عليّ العودة إلى ذلك الرصيف ففيه نهاية العالم وبداية مأساتي .. جموع غريبة .. رجال .. شيوخ .. أطفال ... مجانين .. نساء تعلن عن عهرها بكل وقاحة .. ومجيد روبه لايزال بخصومته (سنفوز بالدوري لا محالة لدينا لاعبين يستحقون أن يلعبوا بكأس العالم ..) جدال ترتفع فية الأصوات وصوت سعيد الذي يختلط فية المزاج كثيرا يدق طبلة أذني بإلحاح . وبشير المجنون الذي يبيع بطاقات اليانصيب يقولون أنه كان مدرس رياضة لكنه جن . حتى سعيد هذا كان مهندس زراعي لكنه هرب من عالمه وزوجته وأبنته وأرتضى أن يكون مهرجا في فرقة مجيد روبه الزورائي .. عالم غريب يختلط فيه كل شيء حتى بات من الصعوبة أن تميز العاقل من المجنون . شعرت برغبة شديدة لتناول الشاي .. لا بأس شاي (فعيو) ليس ببعيد من هنا .. تذكرت مقولة سعيد التي يرددها دائما ( اللي ما يحب فعيو ...... أخته ) ولا أعرف ماذا يقصد، شربت أستكان الشاي على عجل .. إنها تعود هذه الأسراب اللعينة من النمل .. لقد دخلت قدمي وبدأت تحتل أرجلي شيئا فشيئا وتواصل التقدم .. وأنا أستسلم دون أي مقاومة تذكر .. أخرجت سيجارة من جيبي .. لم تكن سيجارة إنها عمود معبد روماني قديم حاولت .. أن أرميه على هذة الجيوش المحتلة لكنة سقط على رأسي حريق يشتعل من جديد .. سحب دخان ..إنني أرى الجحيم أمامي بل إنني أطفو علية .. أغمضت عيني .. حاولت أن أهرب من هذا الحريق الذي يحاصرني .. لكني وقفت عاجزا لا أستطيع أن أفعل أي شيء .. إنني متعب .. متعب جدا .كلمات مبعثرة.. قبر مندرس .. أي بحار قطع هذه البحار ليموت هنا وحيدا منسيا .. بدأت أحفر بكلتا يداي هذا القبر .. كنت كمن يبحث عن كنز مفقود .. حفرت .. حفرت .. وأخيرا وجدت عظاما منخورة ووجها منزوع العيون .. إنه وجهي .. ملايين من النمل تحتلني .. إنها تأكل كريات دمي بشراهة .. صاح مجيد روبة :

- سنفوز لا محالة ونهزمهم جميعا .لازلت أسمع نزاعاتهم .. إنهم بقربي لكنني لا أرى أحدا منهم .. إنها أصوات أصوات .. لم يبق إلا القليل على الارتطام الهائل .. جسدي يقترب بسرعة لكن سريري الحديدي أسرع منه، آه .. إنني أتكسر مثل قدح زجاجي تتناثر أشلائي على الأرض .

- سنفوز ونهزمهم جميعا .نفس الصوت يعيدني إلى حيث أنا وقد حل الظلام رغم أن الساعة لازالت تسير ببطئ شديد لازالت بقايا سيجارة منطفئة بين أصابعي .. عليّ العودة إلى هناك .. بين الوجوه الكئيبة والمريضة اندفعت بين جموع تعود كل يوم لتنام وتصحو على مأساة .. لا أعرف كم استغرق بي الطريق لكني وجت نفسي أركب باصا قديما يهتز كأنه مهد طفل رضيع .. كانت نسمات الهواء الحارة والجافة تصفع وجهي بقوة .. إنني أرتفع عاليا .. أجلس فوق بساط سحري .. أرتفع عاليا فوق مدينة تضاجعها الظلمة كل ليلة لكنني تخيلت وجهها فجأة .. زمن طويل مر على آخر لقاء لنا .. حاولت لحظتها أن أنزع الحقيقة منها كجلاد لكنها بقيت صامتة صامدة ولم تعترف بأي شيء وإنتصرت في النهاية وتراجعت مهزوما أنا .. وبصقني الباص الخردة على قارعة طريق مترب .. عدت كالعادة إلى ذلك الشارع المعتم وأختفت فيه كما يختفي أي فأر مذعور في جحره .. عدت إلى البيت بحثت وسط العتمة عن شيء ما .. إنه.. قوري الشاي وضعته على النار وإنتظرت كنت أجلس عند باب مغلقة .. إني قلق جدا .. خرج رجل يرتدي صدرية ملطخة بالدم .. حتى وجهه اعتلته بقع دماء تحدث على عجل:- مات بعد أن نزف دمه .. لم إستطع أن أفعل شيء سوى أنني خلصته من آلامه .. ذبحته بكلتا يداي ... وضحك بجنون وبكيت وبكيت بشدة.. اندفعت نحوه ... وجدته يغلي ؟؟ يغلي ؟؟ .. إنه الشاي .. صبيته بالقدح الذي ملأته بالسكر فالنمل يحبه كثيرا .. شربت .. لقد خرج أخيرا .. إنه يسير في أوردتي وشرايني .. إنني أشعر به بدأ يلتهم مخي .. لم إستطع الوقوف طويلا .. إنني أفقد قدرتي على الاستيعاب .. لم أعد أفهم أي شيء لم أعد أسمع أي صوت .. لكنني رأيته مذبوحا على سريره .. كان رأسه معزولا عن جسده .. امسكت رأسه بيدي لكني سمعت صوت مجيد روبه من ورائي :- سنفوز لا محالة .بدؤوا يشجعوني .. هدف هدف لكن النمل ألتهم مخي بعجل وبدأ يأكل عيوني وقلبي . ربما غبت عن الوعي .. لكنني لم أعد أتذكر شيء ربما نمت.. كلا إنني لا أستطيع النوم لقد كانوا يطاردوني من شارع إلى شارع يحملون حرابا طويلة .. ركضت وركضت ، شعرت بخوف لم أعهده من قبل .. إنها النهاية .. وجدت نفسي واقف أمام سلم طويل، لبناية معتمة صعدت راكضا ممرا طويلا وغرف مغلقة الأبواب فتحت أول باب صار أمامي .. فوضى عارمة تعم الغرفة في ركنها البعيد سمعت أناة متقطعة .. اقتربت .. إنها طفله تحتضر كانت مغمضة العينين .. لم إستطع أن أفعل لها أي شيء .. بكيت عند رأسها بكيت وبكيت لكنها في لحظة ما فتحت عيناها .. نظرت لي وابتسمت كأنها تعرفني .. وماتت .. خرجت مسرعا من الغرفة أنفض عني غبار الموت .. دخلت الغرفة الأخرى .. جمع غفير وسطهم مجيد رويه يعلن بصوته صارخا.

ـــ سنفوز عليهم لا محالة .. إننا الأفضل .ورأيت معن المجنون وهو لايزال يسب ويلعن ويتمتم بكلمات غير مفهومة وسعيد يحمل المايك ويعلن الجائزة الكبرى لكنه بكى.. لأن الجائزة الكبرى وهم كبير .. تركتهم وخرجت نحو الغرفة الأخيرة بالممر المعتم .. لقد رأيتها جالسة خلف المكتب أمامها أوراق كثيرة .. رمقتني بنظرة وعادت تدقق الأوراق التي أمامها وبدأت بالحديث قائلة :

- لم أستطع أن أفعل لك شيء لقد حكموا عليك بالإعدام ... حاولت أن أخفف الحكم حاولت أن أسترحمهم لكنني لم أستطع إنني آسفه ستعدم بعد أيام قليلة .لم أكن أعرف عن ماذا تتحدث .. لماذا أعدم .. أي جرم ارتكبت .. حاولت أن أنطق بشيء .. بحثت عن كلمة مناسبة في رأسي لكني لم أجد غير نمل ميت وجسد امرأة عارية بلا رأس وأوراق قديمة وصورة لي عندما كنت صغيرا .. كنت كمن يبحث بين أكوام النفايات .. لم أجد غير كلمة مغبرة رميتها إلى لساني :- إنني أحبك .لم تهتم لها وبدا لي أنها لم تسمعها حتى أنها لم ترفع عينيها عن الأوراق وتمتمت بكلمات قليلة .ـ

ــ سيعدمونك قريبا ..إنني آسف .تراجعت .. تلمست بيدي الباب وخرجت .. لم أكن أعرف أين أذهب .سقط قدح الشاي الفارغ بعد أن أزحتة بيدي .. لازلت أسبح بالعتمة .. سكون مبهم .. شيء ما يألمني.. أرجلي أو رأسي .. لاحت لي النهاية .. تذكرت ذلك الصوت . سنفوز عليهم لامحالة :

لكننا خسرنا منذ زمن طويل وبعيد, كنت أريد أن أنام.. أغفو إلى الأبد لكن النوم يجافيني كأنة طلق عيوني، ليتني أستطيع أن أهرب من قدري .. لا مفر .. مددت يدي إلى جيبي وجدت حبة صغيرة قسمتها نصفين نصف أعدته إلى مكانه ونصف دفعته إلى فمي .. عاد النمل أسرابا عديدة تحت جسدي .. لكني إلى الآن أسمع ذلك الصوت ..

- سنفوز عليهم لا محالة فنحن الأفضل .

ليست هناك تعليقات: