
دوي .. ضجيج .. بكاء .. وعويل نساء لا ينقطع .. لم اكن اشعر بشيء .. كنت مذهولا اقف وسط جموع صاخبة من رجال ونساء واطفال كانوا مذهولين من هول الصدمة .. تلفتوا يميناً وشمالاً .. بعدها صاحوا بصوت واحد .." هو من فعلها "
ركضوا نحوه تجمعوا حوله كان يبدو انه مذعوراً بشكل لا يصدق .. لم يحرك ساكناً .. ظل مستسلماً لهم .. كان لايزال يقف عند هيكل معدني محطم تشتعل النار في بعض من اجزائه ، امسكوه اخذوا يضربونه ويركلونه بارجلهم ... كنت اسمع صوت بكائه وتوسلاته التي لم تشفع له عندهم ..
ازادا زعيق سيارات الاسعاف .. كنت لا ازال اقف قرب شيئاً تناثر ولم يبقى منه سوى بقع حمراء و اجزاء متقطعة .. اقترب مني رجل شرطة كانت تختلط في وجهه علامات الحزن بالقرف ... ابتعد وهو يتمتم كلمات قليلة " الله اكبر ".
لازلت اسمع صراخهم وهم يضربونه بقوة ويتسألون " لماذا فعلتها ؟؟" .
ازاد الضجيج من حولي ومعه ازادت اصوات البكاء والعويل .. كنت ارى رجل يبكي بشدة وهو يردد اسماء ابنائه وطفل يبكي على والده ..وامراة تنحب على ابتها التي سوف تتزوج غداً.. اقترب احدهم .. كان يضع كمامة على انفه ويرتدي قفازات بلاستيكية حليبية اللون انتشرت فيه البقع الحمراء ، اخذ يجمع بقايا ذلك الشيء الذي كنت اقف بقربه كان يبدو انه كمن يجمع النفايات فعلامات القرف والانزعاج مرسومة في عينيه .. وضع كل تلك الاجزاء في كيس اسود .. توقفت تلك الجموع الغاضبة عن ضرب ذلك الذي يقف بقرب الهيكل المعدني الذي لا يزال مشتعلا .. كانوا مثلي منشغلين بمراقبة ذلك المشهد رجال شرطة يتراكضون هنا وهناك ..و الرجال المكممين الذين يلتقطون الاجزاء المتناثرة .. ورجال اخرين يحملون خراطيم المياه ليطفئوا الهياكل المعدنية المشتعلة .. وسيارات الاسعاف التي لم تكف عن الزعيق ، التفت نحو ذلك الذي اوسعته الجموع الغاصبة ضرباً .. كان لايزال مشوشا يتلفت يميناً ويساراً ، كان وجماً .. نظراته كلها رعب وخوف وكأنه يترقب شيء تأخر حدوثه او انه ينتظر احداً تأخر عن الحضور.. تحركت من مكاني الذي كنت اقف فيه لفترة لا اعرف طولها .. اقتربت منه .. ازاد توتره اخذ ينظر نحوي برعب ، حاول ان يتراجع لخطوات الى الوراء .. لكن شيئاً ما منعه ، وقفت بجانبه لم انطق بأي كلمة ابتعد عني قليلاً ، اقترب رجل يحمل خرطوم ماء اطفأ النار التي كانت تشتعل باجزاء ذلك الهيكل المعدني الذي كنا نقف بقربه .. نظرت له بعدها نقلت نظري الى تلك الحشود التي بدأت تتناقص شيئاً فشيء.. خرج مني كلمة كان وقعها كوقع الصاعقة عليه ..
- شكراً لك ....
التفت لي وكأنه لا يصدق ما سمعه لكنه لم ينطق بأي كلمة، كان ينظر لي بحذر .. اكملت بهدوء دون ان انظر له :
- لقد فكرت اكثر من الف مرة بالتوقف والتخلص من ذلك الشيء الكريه ، لكنني لم أكن املك الشجاعة الكافية.. لم استطع ان افعلها لاخرج من هذ اللعبة اللعينة ..
كان لا يزال ينصت وكأنه تناسى خوفه وذلك الشيء الذي كان ينتظره بقلق واضح ، كان الهدوء يعود تدريجيا الى ذلك المكان.. وقبل ان اكمل اقترب من الهيكل المعدني الذي يقبع خلفنا رجل يحمل الة تصوير .. دار حول الهيكل وبعد دقائق قليلة غادر ، انتشر رجال الشرطة حول المكان .. بينما غادرت سيارات الاسعاف .. لم اكن ارى احد من ذلك الجمع الغاضب الا قليل من الاطفال التي لاتزال تلعب وتتراكض هنا وهناك وتتعالى اصوات ضحكاتهم .. وبعض الرجال والنساء المسنين الذين افترشوا الارصفة كف الجميع عن البكاء وكأنهم ادركوا ان الشيء الذي سلب منهم عنوة لا يستحق ذرف دمعة واحد ة ، كانت نظراته لاتزال غير مستقره فتارة ينظر لي وتارة اخرى يتطلع لما حوله بحذر .. اكملت حديثي الذي لم اكن انتظر منه اي رد ...
- يلومك الجميع على فعلتك ويسائلون لماذا فعلتها ؟؟ وانا الوحيد الذي لا يحب ان يعرف لماذا فعلتها فهذا امر يعنيك وقد تكون مخطأ ً.. مدفوعاً بوهم كبير ووعود فارغة ولكن ما يعنيني في الامر كله هو هذا المكان الذي وصلت له وهذه الحقيقة التي عرفتها بعد حين ، والشيء الاخر هو انني تخلصت من ذلك الشيء الكريه الذي حبست في داخله لاكثر من ثلاثين عاماً .. كم كنت اكره ذالك الشيء المترهل وتلك الملامح القبيحة ..
كان لا يزال ينظر لي بإستغراب شديد لم ارى في ملامح وجهه المرتقبة بخوف اي رغبة في الكلام .. ربما كان نادماً ، وربما شعر اخيراً انها كان مجرد احمق انصاع بلا شعور لاشخاص مخادعين زرعوا في رأسه اوهام لا حصر لها وهو الان يقف محتاراً بعد اكتشف انه لم يفعل اي شيء سوى انه كان السبب في كل هذه الفوضى .. اتصور انه يراجع حساباته ..قد يردد مع نفسه يا الهي ما فعلت ؟؟
لكنني واصلت حديثي وهو واصل انصاته لي لكنه اخذ ينظر الى الارض اكثر مما ينظر لما حوله كما كان في السابق ..
- هل تراك تتسأل مثلي عن مغزى كل هذا .. انا كنت اتصور ان ما يأتي بعد الحياة هو السلام والهدوء .. الحرية .. الا تعتقد اننا وجدنا محبوسين في اجساد كريهة وفي حياة لم تكن لنا اي حق في الاختيار " صمت للحظات وبعدها اكملت حديثي سائلا " الا تعتقد اننا نطارد الاوهام .. حتى انت كنت تطارد وهماً كبير .. انظر حولك ماذا حدث ؟؟ كنت تتصور ان احداً سيكون في استقبالك .. يهلهل لك " ضحكت واستدركت قائلاً " لكنه لن يأتي صدقني ..
اتصور انه بكى .. لا استطيع ان اتخيل شعوره . شعور رهيب بالخديعة .. بالفشل .. كانت يتصور انه سيجد كل ما وعدوه به ، لكنه لم يجد الا الفراغ والانتظار السحيق ..
- اتعلم انني منذ سنوات انتظر هذه اللحظة .. لحظة الخلاص، سنوات مرت وكل سنة لاشيء تحمل الا المزيد من اللعنات .. كنت اتصور ان هولاء افضل ممن سبقوهم لكن لا شيء تغير وجوه قذرة ملساء ذهبت لتحل مكانها وجوه قذرة ملتحية ومزيداً من الاوهام .. وهم يتبعه وهم وسلسلة لا تنتهي..
انهار فجأة .. وخر جالساً .. سمعت بكائه الممزوج بيأسه، لحظتها شعرت بالضيق وربما الشفقة عليه لانه لم يجد الا الوهم بأنتظاره .. تركته في مكانه ينتظر احداً لن يأتي غادرت مبتعداً عنه كان الاطفال لا يزالون يلعبون في نفس المكان كنت اسمع صوت ضحكاتهم التي طغت على كل الاصوات .. لم اكن اعرف في ليل ام نهار نحن .. لكني كنت اشعر بالغبطة فهذا العالم المجهول الذي يخشاه كثيرين جميلُ وهادىء بشكل لا يصدق فقد غادرته تلك القوى المجهولة .
اذار \2007
بغداد